إيمان سمير تكتب.. تغريبة
في ليلٍ ثقيل على السماء بدا هذا الهلال يجاهد كي يرفع جزء من ظلمته.. فبيوت غزة أو بالأحرى أنقاضها لا تكترث للمساء، فالناس هنا نصف كل شئ.. نصف بشر.. نصف حياة.. نصف نيام، يحيون في ذعر ويغمضون في هلع، وها هو صوت الزنانة يا أمي قد انقطع.. الزنانة التي طالما كرهناها.. نتمناها الآن.
أريد أن أصنع الخبز يا أمي، فصغاري يتضورون جوعًا، لا طحين ولا قمح، العدو هدم البيت.. لا.. بل ترك لنا هذه الساحة الصغيرة هناك، أستطيع إنكار هذه الحرب وحرائقها، وأشعل نار الخير والبركة.. ربما غدًا تأتي عربات المساعدة من قريب أو بعيد ببعض القمح.. لا بأس فأطفالنا يرون في النوم الملاذ الوحيد.. يستجلبون لأعينهم النعاس حتى يتناسوا واقعهم الدامي.
فهنا يا أمي لا طعام ولا ألوان.. لا عشق ولا كره.. لا برق ولا رعد.. لا كتاب ولا قلم، لم نعد نشعر باختلاف الفصول، فهذا فصل واحد.. شتاء فقط، بردٌ وظلام، ورائحة واحدة.. رائحة الموت.
لن آكل الليلة سوى تمرة واحدة وإذا احسست بالظمأ سأضع النوى في فمي وأحركه فأرتوي كما كان يفعل والدي.
انظري معي إلى هذا الرجل الذي يرتدي ثوبًا كنسيًا ضيقًا يقف على ركام كنيسة عتيقة، لم يستطع ببنيته الضخمة منع القذائف من هدم أمانه.. عدونا لن يشفع عنده ورعنا وتقوانا وإمعاننا في العبادة فقط، لم تجر المعجزات على يد أبي ولا يدي.. ربما تحل بركات السماء على أولادي إذا استعدوا وتوحدوا.
أبنائي الجوعى.. أين هم؟ وأنتِ يا أمي أين أنت ِ؟ لا أراكِ لا أرى سوى هذا القط البائس يتكوم بعيدًا فوق الركام يلعق جرحًا عميقًا لا أمل في شفائه، هل هذه مدينتي التي كنت أعرف كل شبر بها؟ أو هكذا يفترض.. الآن أسير دائمًا على غير هدى.. ليس لي علم بمواضع المدينة ومواقع أحيائها.. نعم.. لقد فُقِدْتُ في وطني.
يا غزة لقد تركتِ للأطفال من بعدك لغة جديدة، لقد صنعتِ لمدن العالم كلها أبجدية.
يا أهل غزة لا تقرأوا سطوري هذه ولا تقرأوا لغيري.. فمهما تألمنا.. مهما رسمنا على الأوراق فربما تكون كلها استعارات محفوظة.. وأسجاع مرصوصة، فأنتم من ستسطرون على الأرض بصمتكم وعلى الورق نزيفكم.
